كوسيلةٍ إضافيةٍ لتتبُّع حركة فيروس كورونا الذي يتطوّر بوتيرةٍ شبه يومية، لجأت بعض الدول كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى مراقبة شبكات الصرف الصحيّ وتحليل عيناتٍ منها لرصد وجود الفيروس في منطقةٍ ما قبل حتى ظهور أيّ إصابةٍ فيها.
منذ بدء انتشار جائحة كوفيد-19، أدركت منظّمة الصحة العالمية حاجة الأفراد والدول إلى اختباراتٍ تعود بنتائج سريعةٍ ودقيقةٍ في آنٍ معاً، وبرز منها اختباران رئيسيان، الأول هو "تفاعل البوليميراز المتسلسل"، الاختبار الجزيئيّ الذي يكشف المادة الجينية للفيروس، والثاني اختبار المستضّدات الذي يتقصّى وجود بروتينات معيّنة على سطح الفيروس.
مرّت أكثر من 3 سنوات على اكتشاف الحالات الأولى في مدينة يوهان الصينية، ظهرت خلالها عدة علاجات ولقاحات وأدوات تشخيص، ولم تزل البلدان في سعيٍ للتعافي من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للإغلاق.
في الولايات المتحدة الأمريكية، لم يعد بإمكان الدولة تحمّل تَبِعات إغلاقٍ آخر، بعد أن باتت الاختبارات المنزلية أكثرَ من تلك التي تُجرى في المختبرات، ووصلت الإحصائيات الرسمية إلى مستوى غير مسبوقة مصحوبةً بجو عام من القلق وانعدام الموثوقية، بينما يطوِّر الفيروس نفسَه لتظهرَ متحوِّراتٌ أقوى أثراً، وأطول عمراً، وأسرع انتشاراً. ولأنّ أعراض هذه المتحوِّرات أقلّ، ستتضاءل معها قدرة السلطات الصحية على تتبّع الفيروس، ما دفعها للبحث عن وسائل أخرى لمراقبة حركته وانتشاره.
وجدت العديد من الدول المتقدّمة تقنياً ضالّتها في فكرةٍ عمرها سنوات، وهي دراسة مسبِّبات الأمراض من مصدرٍ كيميائيّ، وبينما تأخذ الفِرَق الطبية على الأرض عيناتٍ من أنوف المرضى وأفواههم، تعمل فِرَق أخرى على جمع عيناتٍ من مصدرٍ آخر تحت الأرض، من شبكة الصرف الصحيّ.
صحيحٌ أنّ الفيروس التاجيّ ينتقل عبر مفرزات الجهاز التنفسيّ، إلا أنّ الباحثين يقدِّرون أنّ نصفَ هذه المفرزات تجد طريقَها إلى شبكة الصرف الصحيّ. وهناك، يمكن التعرُّف على المادة الوراثية لـكوفيد-19 أو متحوِّراته، حيث ستكون في حالةٍ غير معدية.
في الممارسة العملية، يتم أخذ عينةٍ من مياه الصرف الصحيّ، لاستخدامِها ضمن منهجيةٍ طوّرها المخبِريّون للكشف عن تسلسل المادة الوراثية جينومياً، ليحدّدوا من خلاله نقاط انتشار الفيروس أو انحساره، أو ظهور متحوِّرات جديدة، وذلك خلال الـ15 يوماً السابقة لأخذ العينة. وإذا لم يتم رصد أيّ وجود للفيروس خلال هذه الفترة، سيتم تصنيفُه كـ"غير مُكتَشَف" في هذه المنطقة. أما في حال لم تجمع الفِرَق أية عينات خلال 15 يوماً فما فوق، ستوسَم المنطقة بكونها "تفتقر لبيانات مُحدّثة".
بناءً على هذا المبدأ، وبعد قرابة 6 أشهر من ظهور الحالات المبكرة، أطلقت المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها النظام الوطنيّ لمراقبة مياه الصرف الصحي، بتمويلٍ يضمن استمرارَه بنشر المعلومات عن 400 موقع مختلف حتى العام 2025، حيث أسست العديدُ من الكيانات الحكومية المعنية بالصحة العامة والبيئة لوحاتِ معلوماتٍ وقواعدَ بياناتٍ خاصةً بها ترفدها على الدوام بالبيانات التي يجمعها النظام الوطني لمراقبة مياه الصرف الصحي
شيئاً فشيئاً، تكتسب هذه الطريقة شعبيةً متزايدةً في دولٍ كسويسرا وإيطاليا والمملكة المتحدة التي احتضنت التجربة الأولى لهذه الطريقة في جامعة بانغور، وأطلقت برنامجَ المراقبة البيئية لحماية الصحة EMHP، حيث طبّق فريق من الخبراء هذه الآلية في بعض المدن الكبرى كمانشستر وليفربول. وبعد تتبُّع مستويات الفيروس، وضعوا خريطةً تقريبيةً للحالات المحلية، تلاها برنامجٌ وطنيّ لمراقبة مياه الصرف الصحيّ، يتم من خلاله مثلاً مراقبة الحالة الصحية لـ40 مليون شخصٍ في إنجلترا وحدها.
لكنّ هذه الطريقة قد لا تكون قابلةً للتعميم، ومَرَدُّ ذلك إلى أنّ بعض المناطق قد لا تملك البنى التحتية اللازمة أو شبكات الصرف الصحيّ المُنظّمة لإجراء هذا النوع من الاختبارات. وإلى أن تكون هذه الشبكات على سويةٍ واحدةٍ في كلِّ ولايةٍ أمريكيةٍ أو بلدةٍ بريطانية، ستبقى البيانات محدودة.
هذا ليس أكبرَ التحديات، إذ حين طبّقت 38% من الهيئات الصحية الأمريكية هذه الطريقة، لم تتجاوز نسبة الراغبين في مواصلة استخدامِها 21%، وهذا بالكاد يتجاوز النصف. ذلك أنّ المنهجية العلمية– من وجهة نظرٍ تخصّصية– ما تزال بحاجةٍ إلى التطوير، وأنّ البيانات قد لا تحقق دوماً معايير الدقة والموثوقية. فشبكة الصرف الصحي، في نهاية المطاف، هي المآل الأخير لأنواع كثيرةٍ من المياه العادمة، كمياه الأمطار وفضلات الحيوانات وغيرها. كلُّ هذا قد يؤثر على دقة العينات.
وقد واجهت بعض الولايات تحدياتها الخاصة، ففي فيلادلفيا مثلاً، تستغرق عمليات جمع البيانات ونشرها وتحديثها وقتاً طويلاً، لأنّ إدارة الصحة العامة بالولاية تُضطر إلى إرسال عيناتها لمختبرات جامعة ولاية ميشيغان وانتظار النتائج لأيامٍ أو حتى أسابيع. هذا ببساطةٍ يلغي الهدف الأول للمنهجية برمتها، ألا وهو التنبؤ السريع بتحرّكات الفيروس والتدخّل في الوقت المناسب.
إذا توفّرت كلّ المستلزمات الضرورية، يمكن لهذه الاختبارات الكشف عن الحالات قبل أيام من ظهور الأعراض أو الإبلاغ عنها، بل والكشف عن المتغيِّرات قبل أن تظهر الإصابات الأولى واتخاذ الاحتياطات اللازمة، والوصول لقراراتٍ مستنيرةٍ حول توزيع الموارد والإغلاق وإرسال فِرَق الاختبار والتطعيم. ولعلّ أهمّ ما يميّزها هو كونها آمنةً ومنخفضة التكلفة، وقادرةً على تغطية شريحة واسعة من السكان دون أيِّ تَعَدٍّ على خصوصيتهم. كلُّ هذا يجعلها خياراً ملائماً لتتبّع المتغيِّرات الناشئة وتسريع الاستجابة لحماية الصحة العامة.
المراجع:
https://edition.cnn.com/2022/05/18/health/covid-wastewater-data-not-understood/index.html
https://www.theverge.com/2022/2/4/22917887/cdc-covid-19-wastewater-tracking-pandemic