بحثاً عن وسيلةٍ لحماية البيئة بدلاً من تدميرها، بدأت هيئة ميناء بوسان الكوريّ تنفيذ مشروعَين مبتكَرَين للاستفادة من زخم الحركة في الميناء الحيويّ، فاتجه الأول إلى توليد الطاقة من الضغط الناشئ عن شاحنات نقل البضائع التي لا تهدأ، وتوجّه الثاني إلى الاستفادة من ركام عمليات البناء في المدينة وإعادة تدويرِها كجزءٍ من مشاريع البناء والتوسيع في الميناء الضخم.
تمثِّل الموانئ أهميةً قصوى للدول، فهي المحرِّك الأول للصادرات والواردات، والمتحكّم الرئيسي في الاقتصاد العالمي، حتى أنّ ثمة دولاً بعينها تعتمد في جزءٍ كبيرٍ من ناتجها الوطنيّ على نشاط موانئها الذي قد يصل إلى درجاتٍ خيالية.
ميناء بوسان الكوريّ خيرُ مثالٍ على هذا، فهو خامس أكثر الموانئ ازدحاماً في شمال شرق آسيا، حيث يستطيع استيعاب 169 سفينة في وقت واحد، ويضمّ 4 مراسٍ حديثة مجهّزة بالكامل، و6 محطات للحاويات إلى جانب محطةٍ للمسافرين الدوليين. وقد أكسبته هذه السمات الحظوة في اهتمام السلطات، فزُوِّد بأحدث التقنيات في مجال الموانئ والشحن، وطُوِّرت من أجله أكثر الحلول المبتكَرة لمختلف التحديات.
واليوم، كغيره من المنشآت الحيوية الكبرى، يواجه ميناء بوسان تحدياً كبيراً يتعلق بإيفاء حكومة كوريا الجنوبية بالتزاماتها المتعلقة بتغيّر المناخ، حيث ينبغي على إدارة الميناء إيجاد طرائق فعّالة لخفض استهلاك الطاقة وتحقيق الاستدامة وسطَ مخاوف متزايدةٍ بشأن التلوّث واستنفاد الموارد. وهذان الهدفان هما محور تركيز هيئة ميناء بوسان المسؤولة عن إدارة عملياته، والتي تنشط في إطار المبادرة الحكومية للموانئ المستدامة.
ضمن هذه الجهود، أطلقت الهيئة مؤخراً مشروعَين رائدَين لتحويل ازدحام الميناء من عبء إلى مصدر قوة.
بتمويل من وزارة الشركات الصغيرة والمتوسطة والناشئة، حمل المشروع الأول اسم "نظام توليد الطاقة الكهروانضغاطية"، وهو يقوم على فكرة تحويل الأنشطة اليومية التي تجري في الميناء إلى طاقةٍ لتشغيله، حيث يستخدم ما يُسمى بـ"وحدات حصاد الطاقة"، وهي أجهزة تمتصّ الطاقة الإجهادية وتحوِّلها إلى تياراتٍ كهربائية. في بوسان، تتلقّى هذه الأجهزة الضغط والأحمال الاهتزازية الناتجة عن الشاحنات بينما تدور عجلاتُها على أرضية الميناء وتحوِّلها إلى طاقة.
لتطوير النظام وإجراء الاختبارات، تعاونت الهيئة مع مشغِّلين من القطاع الخاص لاستئجار المواقع والمركبات اللازمة للاختبارات الميدانية، حيث انكبّ فريقٌ من الخبراء على وضع النموذج الأوليِّ للنظام في جهودٍ استغرقت عدّة أشهر قبل أن يبصر المشروع التجريبيّ النور في العام 2022، إذ سيركّز على اختبار المتانة وتحديد كمية الطاقة المولَّدة بدقة.
ومن الجدير بالذكر أنّ أنظمة الطاقة الكهروانضغاطية تتميز عن غيرها من أنظمة الطاقة المتجددة بأنّها لا تتأثّر بتغيّر الظروف الجوية، فلا يعوقها غياب الشمس أو توقُّف هبوب الرياح، بل تواصل توليد الطاقة النظيفة على مدار الساعة ما دام النشاط مستمراً، وهذا ما يجعلها استثماراً مثالياً لازدحام ميناء بوسان.
وقد اختارت الهيئة تركيب الوحدة أسفلَ بوابات محطات الحاويات، فحين تصل إليها الشاحنات التي تزن كلٌّ منها قرابة 40 طناً، عادةً ما يخفّف السائقون السرعة، ما يعني تطبيق ضغطٍ مكثّفٍ تفرضه الشاحنة تلو الأخرى بلا انقطاع.
أما المشروع الثاني، فهو إعادة تدوير مخلّفات البناء من خرسانة وإسفلت، فقد جرت العادة أن يحتاج المقاولون إلى كميات كبيرة من الرخام والحصويات في المشاريع الإنشائية الخاصة بالموانئ. حقيقةٌ تكاملت مع الارتفاع الهائل في مخلّفات البناء في كوريا عموماً، وفي بوسان خصوصاً، فقرابة 45% من نفايات المدينة هي تلك الناتجة عن مواقع البناء. وحيث يشهد الميناء الآن 6 مشاريع بناء جديدة، فأمام الهيئة فرصةٌ مثالية للاستفادة من الركام الذي يمكن تحويله إلى خرسانة بعد معالجته وفق أعلى معايير الجودة.
ويتحدّد جزءٌ كبيرٌ من هذه المعايير من خلال الدليل الإرشاديّ الذي أصدرته هيئة إدارة الميناء، والذي يسرد بخطوات مفصّلة الطرائق المثلى لاستخدام الخرسانة والحصويات المُعاد تدويرُها، وهي بطبيعة الحال ليست ملزِمة قانونياً، لكنّها تهدف لتوعية المهتمين من مواطنين وشركات.
لكنّ هذه المعايير لم تكفِ للقضاء على المخاوف حول المواد المُعاد تدويرُها. تحدٍّ تحاول الهيئة مقاربتَه بنشر الوعي عبر وسائل مختلفة، فتارةً تصدر البيانات الصحفية، وتارةً تكلّف قسم العلاقات العامة بإطلاق البرامج التعليمية للمقاولين الفاعلين في المجال، إلى جانب تفعيل حساباتِها عبر منصات التواصل الاجتماعيّ، والتي تواظب على مشاركة منشوراتٍ لتثقيف المجتمع المحليّ بجودة المنتجات المُعاد تدويرُها وآثارِها البيئية والاقتصادية.
من المتوقّع أن يولّد نظام الطاقة الكهروانضغاطية في كلٍّ من وحداته 45 ميغاواط ساعية سنوياً، وهذا كفيل بتغطية احتياج 125 ألف منزل، وإذا تم تركيب وحدات لحصاد الطاقة في البوابات الـ47 كلِّها، فهذا سيقلّل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بأكثر من 900 ألف طنٍّ سنوياً. أما أرباح توليد الطاقة، فسيُخصّص جزء كبير منها لمشاريع التنمية في القرى المجاورة التي يعتمد سكانها على الصيد كمصدرٍ للعيش.
منذ أن انطلق مشروع إعادة تدوير مخلّفات البناء، استخدمت الهيئة حوالي 160 ألف مترٍ مكعّب من الركام المعالَج وأكثر من 15 ألف مترٍ مكعّب من الخرسانة المُعالجة. وعلى الجداول المحاسبية، حقّق هذا توفيراً في الميزانية فاق 3 ملايين دولار.
ولكونها جزءاً من مبادرةٍ وطنية، تعتزم الهيئة مشاركة نتائج تجربتها مع بقية الموانئ الكورية والعالمية، حيث سيفتح المشروعان أسواقاً جديدةً وفرصَ عملٍ كثيرة ويقدِّمان بدائل نظيفة لعمليات حيويةٍ يشهدها الميناء كلّ يوم.
المراجع: