لتكون السبّاقة في رقمنة قطاع البناء، تعمل إستونيا على إنشاء توأم رقميّ للدولة برمتها، يشمل البيانات الجغرافية والعمرانية والمرورية والبيئية، لتقديم صورةٍ دقيقةٍ عن أيّ مبنى أو موقع، وفي أيّ وقت.
يقدِّم علم البناء والتخطيط الحَضَريّ إجاباتٍ لمختلف التساؤلات حول كيفية عيش الناس وتفاعلهم وتنقُّلهم، وطرائق إيصال مستلزماتهم وإحاطتهم ببيئةٍ صحيةٍ وتلبية احتياجاتهم المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
في إستونيا، ينفرد قطاع البناء بـ 7% من الناتج المحليّ الإجمالي، بوجود أكثر من 11 ألف شركةٍ نشطةٍ تشغّل عُشر القوى العاملة في البلاد. لكنّ القطاع يواجه تحدياتٍ متزايدة، من ضعف الإنتاجية إلى نقص الكفاءات الذي يلقي بعبءٍ كبيرٍ على المقاولين لإتمام المشاريع في الوقت المناسب وضمن حدود الميزانية المخصصة. فالعمليات التقليدية تسبّب هدراً كبيراً للموارد، لا سيما في مراحل استصدار تصاريح تشييد الأبنية واستخدامِها، التي قد يتجاوزُ عددُها 20 ألفاً سنوياً، حيث يتمّ تحميل الوثائق بصيَغٍ ثنائية الأبعاد تفتقر للتنظيم، ما يجعل تحديثَها عمليةً صعبة.
وبما يتوافق مع تجربتها الرائدة، تتعاون الحكومة الإستونية مع القطاع الخاص لرقمنة قطاع البناء وجعله أكثر كفاءةً ودقةً واستجابةً لمتطلبات القرن.
مع ظهور جيلٍ جديدٍ من التقنيات، أدخل السجلّ الإستونيّ للعمران تغييراً يمثِّل العمود الفقريّ لطريقة العمل الجديدة عبر تطوير "نمذجة معلومات البناء"، وهي عمليةٌ ذكية تستند إلى نموذجٍ ثلاثيّ الأبعاد للتخطيط والتصميم والبناء وإدارة المباني والبنى التحتية.
وبالاعتماد على هذه العملية، تعاونت وزارة الشؤون الاقتصادية والاتصالات مع شركة من القطاع الخاص لإنشاء منصةٍ إلكترونية ثلاثية الأبعاد خاصةٍ بالبناء، تُعرف بالتوأم الرقميّ، وهو محاكاة رقمية من قسمين. الأول عبارة عن نماذجَ ثلاثية الأبعاد للمباني أُنشِئَت حسبَ معلوماتها في سجل العمران، والثاني يتضمّن نماذج أكثر تفصيلاً تستند إلى القياسات الليزرية التي أخذتها الطائرات بدون طيار عبر مجلس الأراضي.
وفي حين يمثِّل التوأم الرقميّ واقعاً افتراضياً، فهو قابلٌ للترقية إلى واقعٍ معزّز، وذلك بتوصيل المحاكاة الرقمية لموقعٍ ما بأجهزة استشعارٍ موجودةٍ فيه فعلاً، ما يجعل المعلومات الرقمية تتكامل مع البيئة الحقيقية.
ومن ضمن التحديثات التي أُضيفَت مؤخراً للمنصة كان تطبيق الخرائط ثلاثية الأبعاد الذي أنشأه مجلس الأراضي، والذي يتيح للمستخدم استعراضَ أيّ مبنى في إستونيا عبر صورٍ من مناظير علويةٍ وجانبيةٍ تغطّي جميع الزوايا وتورِد مجملَ البيانات الجغرافية الدقيقة للمبنى وما يحيط به من أشجار وصخور وعناصر طبيعية، إلى جانب ما يمتدّ تحته من أنابيب وكابلات، وكلِّ ما يخصه من وثائقَ وتصاريحَ تضمن ملاءَمَتَه للقوانين واللوائح، وحتى البيانات الجيولوجية المتعلقة بالموارد المعدنية. فعلى سبيل المثال، يمكن لسكان البناء أو لمسؤولي الصيانة الاطلاعُ على النموذج لمعرفة أعدادِ ألواح الطاقة الشمسية المستخدمة وإمكانياتِها ومدى تأثُّرِها بظروف الطقس كالأمطار والثلوج، ويمكن إجراء هذه التقييمات على مستوى كلِّ مبنى أو حيٍّ أو بلدة.
ولأنّ الابتكاراتِ الحقيقيةَ تولَد في سوق العمل، فدور الحكومة هو توفير البيئة الملائمة لتطويرها، لهذا، فقد فُتح الباب لمشاركة البيانات والمنصات الرقمية مع الشركات والمصممين والحكومات المحلية والكيانات الحكومية وحتى الهواة الذين استخدموها في المحاكاة والرسوم المتحركة.
وكانت سلطات العاصمة، تالين، قد خاضت تجربتَها الأولى مع هذه التقنية قبل أكثر من 10 سنوات، حين أنشأت نماذج ثلاثية الأبعاد لأبنية البلدة القديمة بغرض جذب السياح إلى المنطقة وتنظيم أنشطتهم فيها.
وفي المرحلة المقبلة، سيتم تطوير النماذج الرقمية أكثر لتسمحَ باستكشاف إضاءة الأبنية والتصميم الداخليّ لغرفها، وسيتمكن المستخدمون من إدخال نماذجهم الرقمية والتقدم بطلبات للحصول على التصاريح.
كما وضعت الحكومة عدة خطط مستقبلية لتطوير توأمها الرقمي، مثل استخدام المسح الضوئي وتقنيات التصوير المتنقّل بالليزر لجمع بيانات سنويةٍ للطرق بما فيها من شاخصات مرورية وإعلانات طرقية وإشارات مرور، أو زيادة كفاءة إدارة الأصول برفدها بشبكات التجهيزات تحت-الأرضية عبر المدينة، وسيبدأ تنفيذُ الخطة الأخيرة هذا العام، حيث فرغت الورش من تركيب أجهزة الاستشعار التي ستراقب حركة المرور واستهلاك الطاقة في الأبنية الحكومية.
كما تعاونت الحكومة الإستونية مع نظيرتها الفنلندية في مشروعٍ لجمع البيانات البيئية وتطوير أدواتٍ رقميةٍ للسكان والمنظمات غير الحكومية للمساهمة بآرائهم ومقترحاتهم للتخطيط الحَضَريّ وإنشاء منشأةٍ مجهزةٍ بأجهزة الواقع الممتدّ لتستضيف أنشطة الابتكار الجماعيّ.
لنجاح العمل، لا بدّ أن تحقق البيانات مواصفاتٍ معيّنةً أهمّها الدقة والشمولية، وإلّا، فقد تعوق الإنجاز وتسبّب الخسائر. ووفقاً للتقديرات، فإنّ عدم كفاية البيانات أو عدمَ موثوقيتها قد كبّدا قطاع البناء العالميّ خسائر فاقت 1.8 تريليون دولار في العام 2020 وحدَه، هذا ما تكامل مع تحدي تصميم العمليات المعقّدة، فالتخطيط غالباً ما يكون إجراء خاصاً بكلّ سلطة محلية.
من جانبٍ آخر، يعاني القطاع نقصاً في الشركاء والمطوّرين القادرين على تطوير حلولٍ رقميةٍ جديدة وتلبية الاحتياجات المتزايدة.
في حال اجتياز هذه التحديات، وتكريس ثقافة الرقمنة في قطاع البناء، ستؤسس التوائم الرقمية لعملية أكثر فاعلية عبر تسهيل عناصرها المختلفة من التخطيط المكانيّ والمراقبة والتحكم عن بعد والصيانة، كما ستفضي إلى آلية عمل واقعية تراعي احتياجات السكان وتفتح الباب للتعاون بين القطاعات وتعزّز الدور الاقتصاديّ لقطاع البناء.
المراجع:
https://www.frontiersin.org/articles/10.3389/fbuil.2022.834671/full
https://www.sorainen.com/deals/the-estonian-construction-industry-is-moving-towards-digitalisation/
https://www.sorainen.com/deals/the-estonian-construction-industry-is-moving-towards-digitalisation/
https://e-estonia.com/can-you-build-houses-out-of-pixels-and-bytes/