ضمن التوجه المستقبلي العالمي لتحديث قطّاع النقل، أطلقت مدينة هامبورغ مشروعاً طموحاً لرقمنة شبكة النقل، حيث أعلنت مؤخراً عن تنفيذ مرحلته الأولى والمتمثّلة في تصنيع قطارٍ ذاتي القيادة يعمل بشكلٍ مؤتمتٍ بالكامل وفق الأنظمة الأوروبية، ليمثل خطوة أولى نحو استخدام التقنيات في شبكة النقل على المستوى الوطني.
تعد القطارات إحدى أهم وسائل النقل العام وأكثرها أماناً في العالم، وفي قارة أوروبا تحديداً، تساهم القطارات بتغذية شريان الحياة اليومية في المدن الكبرى، ما يستدعي التطوير الدائم والاستعانة بالتكنولوجيا لتحسين أداء منظومة النقل العام المحلي في مدنها المتنامية، لتواكب احتياجات نمط الحياة المعاصر.
وفي هامبورغ الألمانية، المدينة الأكبر مساحةً في البلاد، تتجه أعداد السكان إلى تزايد مستمر، مصحوبةً بزخم النشاط التجاري الذي تشهده المدينة، الأمر الذي زاد من حاجتها إلى تحديث نظام السكك الحديدية السريع، ومدِّ خطوط نقلٍ إضافية، وتحسين الخدمات المقدمة للركاب. وضمن المساعي الهادفة إلى تحقيق هذه الرؤية، أطلقت مدينة هامبورغ هذا العام أول قطارٍ آليٍّ ذاتيّ القيادة في العالم بعد أن عملت حكومتها المحلية على تحديث ورقمنة نظام السكك الحديدية في مشروع استمر لثلاث سنوات تقريباً.
تتطلب عملية تحسين خدمات النقل في العصر الحالي إنشاء بنى تحتية رقمية، الأمر الذي دفع حكومة هامبورغ إلى إطلاق مشروع النقل الرقميّ في العام 2018، الذي كان حصيلة تعاونٍ بين بلدية هامبورغ وشركتي "دويتشه بان" و"سيمنز" للنقل وتتويجاً لمذكرة التفاهم التي وُقِّعَت في العام 2017 بشأن تعزيز الشراكة بين القطاع الخاص والحكومي لتحويل هامبورغ إلى مدينة ذكية، حيث وضعت المذكرة حجر الأساس لكل هذه الجهود.
ويسعى المشروع الذي بلغت ميزانيته 60 مليون يورو لوضع جدول زمني منتظم وخطط واضحة لتحقيق أهداف تطوير منظومة النقل العام بالكامل، وكانت ثمرة الإنجازات الأولى هو تشغيل أول قطارٍ آليٍّ ذاتيّ القيادة في العالم في العام 2021.
يقوم المشروع على الدمج الوثيق بين البنية التحتية للسكك الحديدية والقطارات بالاستفادة من النظام الأوروبي للتحكم بالقطارات ونظام التشغيل الأوتوماتيكي لها، حيث يراقب النظام الإلكتروني الحديث النقاط المختلفة المنتشرة على طول السكك الحديدية للتأكد من كونها في أماكنها الصحيحة ويرسل الإشارات للقطارات لتشغيلها.
وقد تم تطبيق الآلية الجديدة على أربعة قطاراتٍ ستقطع رحلةً بطول 23 كيلومتراً بين محطة "برلينر تور" ومحطة "أوموليه". وتخضع القطارات المؤتمتة بالكامل للتحكم باستخدام التكنولوجيا الرقمية، وهذا لا يعني الاستغناء عن سائق القطار، إذ يبقى السائق مع الركاب على متن القطار للإشراف على سير الرحلة، في حين يتم تحويل مسارات القطارات وانعطافاتها بشكلٍ أتوماتيكي، ومن دون الحاجة لأي تدخل، بما في ذلك التوقف عند أرصفة صعود الركاب في المحطات. ولكن على متن هذه القطارات الأوتوماتيكية، يتمتع السائق دوماً بالسلطة الأعلى في عملية التحكم بسير القطار، ويستطيع تولي القيادة في أي وقت، وخصوصاً في حالات الحوادث.
وفي هذه الأثناء، تخضع الرحلة للمراقبة عبر حاسوب مبرمج يعمل وفقَ النظام الأوروبي للتحكم بالقطارات، وهو ما يتلقى معلومات التحكم بالقطار كحدود السرعة، ثم يتولى نقلَها عن طريق موجات الراديو إلى القطارات المعنية، ومن ثم يواصل مراقبة حركتها.
وإلى جانب مركز الراديو الجديد، يتضمن النظام الأوروبي للتحكم بالقطارات العديد من أجهزة التحكم اللاسلكية، وهي عبارة عن أجهزة إرسال يتم وضعها بين قضبان السكة الحديدية على امتداد مسارات القطارات الأربعة لتنقل إلى كلٍّ منها معلوماتٍ إحصائيةٍ إضافية، كالموقع والسرعة مثلاً.
أما نظام التشغيل الأوتوماتيكي للقطارات، فيمكن لسائق القطار من خلاله تفعيل القيادة الآلية عالية الجودة عبر الوحدات الخاصة به على متن كلّ قطار، حيث تتلقى هذه الوحدات معلومات الجدول الزمني المباشرة من حاسوبٍ تابعٍ لها، وتتلقى أوامر المتابعة من وحدة النظام الأوروبي للتحكم بالقطارات الموجودة على متن القطار أيضاً.
وفي المرحلة الثانية من المشروع، سيبدأ النظام بالاستفادة من إمكانياته الكاملة، حيث ستعمل القطارات على مقربةٍ من بعضها ضمن عمليةٍ مؤتمتةٍ بالكامل، يتم التحكم بها عبر التقنيات الذكية كتقنية الاستشعار التي تمكنها من استكشاف محيطها وموقعها.
وأثناء عملية التنفيذ، اتضح أن التحدي الأكبر يكمن في افتقار الأنظمة المعتمدة حالياً إلى الشروط المطلوبة لتوسيع التجربة، فلتحقيق الاتصال بالنظام الأوروبي للتحكم بالقطارات، كان لا بد من ترقية الأنظمة لتمكينها من العمل إلكترونياً باستخدام تقنياتٍ محدثة، ولذلك تم دمج العناصر المطلوبة لتنفيذ نظام التشغيل الأوتوماتيكي وفق النظام الأوروبيّ، وذلك على السكك وفي القطارات نفسِها والحواسيب والمرشِدات اللاسلكية وغيرها.
وعبر أتمتة عمليات السكك الحديدية، يمكن للشبكة أن تقدم لمسافريها خدمات أفضل وأكثر وموثوقية ودقة، كما أنّ قدرة هذه الشبكة يمكن أن يزداد بنسبةٍ تصل إلى 35% لجذب مزيد من الركاب، وذلك دون الحاجة إلى تمديد مسارات جديدة للقطارات. والأهم هو أنّ هذه العمليات ستحقق كفاءةً أكبر في استخدام الطاقة، مما يعني الحد من انبعاثات الكربون وتعزيز منظومة نقلٍ أكثر استدامة.
إلى جانب كونه خطوةً مفصليةً لإدخال التقنيات المبتكرة إلى عمليات السكك الحديدية، يمثل هذا القطار الخطوة الأولى في مشروعٍ يهدف إلى تجديد الشبكة بالكامل بحلول العام 2035 باستخدام النظام الأوروبي للتحكم بالقطارات وتكنولوجيا الإشارات الرقمية ونظام التحكم والتشغيل المتكامل، ضمن المسعى الألماني للانتقال إلى المستقبل الرقمي.
المراجع:
- https://press.siemens.com/global/en/pressrelease/world-premiere-db-and-siemens-present-first-self-driving-train
- https://s-bahn.hamburg/magazin/digital-s-bahn-hamburg?lang=en