اكتسحت الابتكارات والمفاهيم الرقمية الحكومات حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من قائمة مصطلحاتها واهتماماتها خلال العقد الماضي. ونجم عن ذلك استعانة العديد من الهيئات الحكومية بأطر العمل المتبعة والمُجّربة في القطاع الخاص مما أثمر عن نتائج إيجابية من حيث توفير سياسات حكومية أفضل وتحسين الخدمات الحكومية. ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن الجزء الأكبر من هذه الابتكارات جاء نتيجةً لجهود انبثقت وصُممت ونُفذت على المستوى الداخلي من الحكومة، بينما ساهم القطاع الخاص والمجتمع المدني والمواطنون بالجزء الأكبر من الابتكارات التي تدعو للاهتمام. وبفضل توافر المزيد من البيانات، بدأت هذه الجهات بالابتعاد عن المنهج التقليدي والتفكير الابداعي لتصنع أدوات جديدة ومبتكرة.
واليوم، تشهد التقنيات الرقمية موجة من التوجهات المتغيرة وسريعة الوتيرة والتي من شأنها أن تُحدث تغييرًا جذريًا في توقعات المواطنين. والدليل على ذلك التغيير الملموس في طريقة تعامل المواطنين وتفاعلهم وارتباطهم بالهيئات والخدمات الحكومية. وتتّسم طبيعة هذه التفاعلات والتعاملات المتغيرة بأنها أفقية وتمكينية وتلقائية. ويمكن القول أنها مغايرة تمامًا للأنظمة التقليدية الهرمية والبيروقراطية القائمة على القواعد والتي طوّرتها الحكومات على مرّ العقود الماضية. يعتمد هذا الشكل الجديد من التفاعل على البيانات في المقام الأول، وبالتأكيد البيانات المحدثة والمفتوحة والموثوقة وسهلة الاستخدام.
أصبحت هذه الحاجة للبيانات بمثابة موضع الاهتمام الرئيسي الذي ينطبق على جميع جوانب مجتمعنا الرقمي المتطور. ومن أبرز محاور التركيز في هذا المجال الذكاء الاصطناعي الذي يعِد بإحداث ثورة ونقلة نوعية في المجتمعات بما فيها الحكومات. وتستعين شركات مثل جوجل وفيسبوك ومايكروسوفت بالتقنيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي لغايات تدريب أجهزة الحاسوب للتعرّف على الصور وفهم لغة الإنسان. ولأننا نملك كميات هائلة من البيانات المطلوبة، فمن الممكن تدريب الحاسوب على تأدية مثل هذه المهام الصعبة. الأمر ذاته ينطبق على جميع التوجهات القائمة على التكنولوجيا والتي تسهم في رسم ملامح المستقبل مثل التعلم الآلي والتصنيع الذكي. فجميع هذه التوجهات تعتمد على البيانات ولا يكون لها أي قيمة دون بيانات جيدة ومفيدة. ومن هذا المنطلق، أطلق على البيانات وصف «النفط الجديد».
الحوكمة في عصر البيانات
بفضل التطور التقني سريع الوتيرة الذي شهدناه خلال العقود الماضية، أصبح لدينا نماذج أعمال جديدة (على رأسها التجارة الإلكترونية)، فضلًا عن تحقيق مستوى غير مسبوق من التواصل العالمي بفضل ظاهرة انتشار الهواتف الذكية. وأثمرت هذه التطورات عن إنتاج كميات هائلة من البيانات التي أدّت بدورها إلى النشوء السريع لقطاع البيانات. وما كان في يوم من الأيام مقتصرًا على الوكالات الاستخباراتية والمختصين بأبحاث السوق والإحصاءات الفنية أصبح الآن متاحًا للجميع.
يُنتج هذا العالم المتصل الذي نعيش فيه اليوم البيانات بوتيرة غير مسبوقة في التاريخ البشري. حيث تُشير التقديرات إلى أن عدد الأشخاص المتصلين بشبكة الإنترنت اليوم يزيد على 3 مليارات شخص (مقارنةً بحوالي 2.3 مليون شخص فقط في عام 1990). ولأن هؤلاء الثلاثة مليار شخص ينتجون البيانات في كل دقيقة من حياتهم الرقمية، نشأ مفهوم البيانات الضخمة والتي تُعرف عمومًا باستخدام أربعة عناصر هي الحجم والتنوع (تنوّع المصادر) والسرعة (الفعالية على مدار الساعة) وصحة البيانات (في ظل هذه الوفرة، يصبح ضمان الجودة أمرًا حتميًا).
يمكن أن تكون البيانات الضخمة أداةً قوية إذا ما استُخدمت بفعالية، فقد وجد العديد من الباحثين رابطًا قويًا بين استراتيجيات إدارة البيانات الفاعلة والأداء المالي للشركات كونه يساعدهم في الوصول إلى السوق بشكل أسرع وتقديم منتجات وخدمات تنسجم مع احتياجات المتعاملين بشكل أفضل. وبالنسبة للقطاع الحكومي، ينطوي هذا الرابط على إمكانيات تعزيز الأداء من حيث تطوير سياسات أفضل وتقديم خدمات حكومية تتناسب مع احتياجات المتعامل وتوزيع المصادر على نحو أكثر كفاءة وفعالية. ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى نتائج سلبية إذا ما استُخدم بشكل خاطئ ناهيك عن مسألة الخصوصية التي طال الحديث فيها.
أصبحت إدارة البيانات الضخمة بفعالية أمرًا ممكنًا اليوم بفضل الأجهزة والبرمجيات المتاحة والتي تقوم في صميمها على النمو الهائل لقدرة التخزين. وفي يومنا هذا، يكلف القرص الصلب بسعة تيرابايت واحد حوالي 50 دولار (تلك كانت قدرة التخزين العالمية منذ أربعة عقود فقط). وبسبب هذه القدرة التخزينية العالية، ارتأت العديد من الهيئات اتباع منهج «اجمع الآن، صنّف لاحقًا» فيما يتعلق بالبيانات. إن انخفاض تكلفة التخزين وتوافر أساليب أفضل للتحليل يعني أنك لست بحاجة لوجود غرض معين من البيانات قبل جمعها. أي أن البيانات الضخمة ستصبح أضخم وستزداد قيمتها في كل يوم يتطور فيه الذكاء الاصطناعي بحسب فريق خدمات تخزين بيانات واتسون في آي بي إم.
نماذج التشغيل في عصر البيانات
تتمركز الغالبية العظمى من بيانات العالم اليوم في أيدي القطاع الخاص (ومثال ذلك شركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والتجزئة) وبعض هذه الشركات مثل جوجل وفيسبوك نجحت باكتساب الأموال من هذه البيانات وجعلتها محورًا رئيسيًا في نموذج أعمالها. في حين استخدمت شركات أخرى مثل أوبر Uber وإير بي آند بي Airbnb البيانات لتطوير نماذج لمنصات أحدثت نقلة نوعية في القطاعات التي تعمل بها. وحتى الآن، يقدم الأفراد بياناتهم مجانًا مقابل الحصول على الخدمات التقنية (مثل البريد الإلكتروني)، ولكن لن يبقى الحال هكذا لوقت طويل. إذ يجري تطوير نماذج الأعمال بهدف إيجاد طرق ووسائل فاعلة للبدء بدفع المال للأفراد مقابل البيانات التي يقدمونها في حياتهم اليومية. وبالتالي، نحن في انتظار قطاع جديد مثير للاهتمام وغير منظم على نطاق واسع.
أما بالنسبة لبقية البيانات العالمية فهي في مخزنة لدى الجهات الحكومات في أغلب الأحيان بشكل ورقي أو في أنظمة قديمة. وبغية الاستفادة من عصر البيانات على المستوى المجتمعي، ظهرت حركة جديدة للترويج للبيانات المفتوحة. ففي الوقت الذي تقتصر فيه البيانات الحكومية على جميع البيانات أو المعلومات التي تنتجها الهيئات الحكومية أو تجمعها، يشير مصطلح البيانات مفتوحة المصدر إلى إمكانية نشر وتبادل البيانات التي يمكن الرجوع إليها وإعادة استخدامها بسهولة من قبل أي شخص متصل بالإنترنت وبدون أي رسوم أو قيود تقنية.
يومًا بعد يوم، تتحول البيانات إلى مصدر للثروات وأداة لتعزيز القيمة العامة. وفي هذا الإطار، قد نفترض أن قيمة البيانات تتجاوز لقب «النفط الجديد» الذي وصفت به، بل إنها شريان أساسي لحياة المجتمع الرقمي. تأكيدًا على ذلك، فإن الشركة التي تعمل بدون بيانات دقيقة هي أشبه بشركة عمياء وينطبق هذا بشكل كبير على القطاع الحكومي (لا سيما في ضوء التقلص المستمر للموازنات الحكومية).
مع ذلك، هناك مجموعة من الأسئلة الهامة التي يجب الإجابة عنها في عصر البيانات. ومن هذه الأسئلة: من يمتلك البيانات، ومن يجب أن يمتلكها (بالنظر إلى أهميتها المحورية في مجتمعنا الرقمي المستقبلي)؟ هل يجب تزويد المواطنين بميثاق بيانات أساسي يمكنهم من فهم حقوقهم ومسؤولياتهم؟ من المسؤول عن جودة البيانات وأمنها؟ كيف يمكننا إدارة وضمان الخصوصية؟ وأخيرًا ، هل سيوافق الناس على الاستمرار بتقديم البيانات دون حصولهم على مقابل مادي؟
من الحكومات الإلكترونية إلى الحكومات المنظمة للبيانات
تعتمد جودة القرارات الاقتصادية والابتكارات والسياسات الحكومية وكافة الخيارات القائمة على البيانات الضخمة و/ أو المفتوحة على جودة البيانات التي تستخدمها. ولذلك، يجب التدقيق في البيانات وتحديثها وحمايتها وجعلها قابلة للاستخدام. وبما أنه أمر قد يتعذر تحقيقه نظرًا لتنوع مصادر البيانات ومدى صحتها، تتجه المجتمعات نحو حكوماتها للقيام بهذا الدور الهام.
لطالما استعانت الحكومات بخدمات أقسامها التقنية على مر العقود، إذ أننا انتقلنا من الحكومة الإلكترونية الجيل الأول (ويب 1.0) إلى الجيل الثاني (ويب 2.0)، الأمر الذي وضع بين أيدينا خدمات أكثر قيمة وتأثيرًا مع التطبيقات القائمة على الإنترنت. واليوم، ننتظر انطلاق نسخة الحكومة 3.0. فبدلًا من أن نتعامل مع الحكومة عبر تقنية معينة أو مجموعة أدوات، أصبحنا ننظر إليها كمنصة لتحقيق قيمة عامة والبيانات في صميمها بما يعد تغييرًا حقيقيًا في ثقافتنا.
لقد أصبحت البيانات النفط الجديد بكل تأكيد، فهي تنطوي على إمكانات تحويلية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وإذا ما نجحنا بالتنقيب عن «البيانات الخام» وتحسينها وتوجيهها للتأثير على القرارات على أرض الواقع، فإن قيمتها ستزداد دون شك. وفي حال تبادلنا البيانات عبر الدول والمجتمعات بالشكل الصحيح ووفرناها في المواقع التي تزيد فيها فائدة التحليلات تحديدًا، فإن ذلك سيؤدي إلى تغيير قواعد الحياة وتغيير الطريقة التي نعيش ونعمل بها. ولتحقيق ذلك، يجب على الحكومات تصميم وصقل وإتقان مجموعة جديدة من القدرات والأنظمة وصياغة ثقافة جديدة. والأمر الوحيد الذي سيُجدي نفعًا في هذه الحالة هو تأسيس منظومة جديدة.
تحفظ غالبية هذه البيانات في الوقت الحالي كملكية خاصة تابعة للشركات والحكومات وغيرها من المنظمات. وهذا الأمر يحدّ من قيمة البيانات العامة. أصبحت البيانات اليوم بمثابة سلعة اجتماعية جديدة، الأمر الذي يحتم على الحكومات التفكير بوضع تشريعات تنظم مسؤولية البيانات وتسهم في توجيه القطاع الخاص وغيره من مالكي البيانات ومساعدتهم على تأدية مهامهم في عصر البيانات والتي تتمثل بمهمة جمع البيانات وإدارتها وتبادلها بالطريقة المناسبة ولا ننسى مهمة حماية الخصوصية. فيجب فرض هذه التشريعات على أنظمة إدارة البيانات الضخمة والمفتوحة لدى الحكومة، بحيث تغطي جميع البيانات الخاصة بالأطراف المعنية بغض النظر عن الملكية أو غيرها من القواعد الحاكمة.
وما إن يوضع إطار قانوني واضح، يتعيّن على الحكومات تطوير وإتقان مهارة أساسية جديدة وهي: إدارة البيانات وتنظيمها. ويكمن التحدي الذي تواجهه حكومات اليوم في وجود اختلاف بين المهارات الأساسية والأنظمة المطلوبة في عصر البيانات من جهة والأنظمة واللوائح الحكومية الحالية من جهة أخرى. وبالرغم من الاهتمام السياسي على مدار سنين واستثمار المليارات في هذا المجال، لا تزال غالبية حكومات العالم تواجه صعوبة في إدارة قواعد البيانات القديمة غير المتوافقة مع بعضها البعض والتي لا تتيح أي نوع من أنواع تبادل البيانات أو التصاميم القائمة على البيانات. فلا تزال القوانين والتشريعات حديثة العهد وتواجه صعوبة في مواكبة وتيرة التغيير. والأهم من ذلك أن الكفاءات والمواهب المطلوبة لإدارة هذه المهارة أو القدرة الجديدة لا تنجذب عادةً للعمل في الجهات الحكومية بينما يزيد الطلب عليها في القطاع الخاص.
يجب على الجهات الحكومية تصميم عمليات متطورة لإدارة البيانات، بحيث تُصبح قادرة على تملّك كميات هائلة من البيانات ومعالجتها وتخزينها بطريقة تعبر عن السياق التي استخرجت منه (تتمتع العوامل السياقية بأهمية كبيرة لأن البيانات الضخمة قد تؤدي إلى تأثيرات عكسية على القرارات الناتجة عنها). من جهة أخرى، ينبغي على الحكومات اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتعزيز العمليات لضمان جودة البيانات. تنبع هذه الحاجة من حقيقة أن قيمة البيانات بالنسبة لغايات صنع القرار تتأثر وتتعرض للخطر إذا كانت تلك البيانات غير دقيقة أو غير ملائمة.
ولكي تنجح في تحقيق ذلك، يجب على الحكومات النظر في عدد كبير من القوانين والتشريعات، بدءًا من مواءمة وتنفيذ القوانين المتعلقة بالخصوصية والحماية من انتهاكات البيانات وصولًا إلى القوانين التي من شأنها ضمان مبدأ حيادية الشبكة وتدفق البيانات. وتدور اليوم نقاشات مطوّلة حول مستقبل البيانات الضخمة بناءً على الافتراض القائل بأن شبكة الإنترنت ستبقى عبارة عن سلسلة من الشبكات المفتوحة التي تتدفق عبرها البيانات بسهولة. وقد بدأت بعض الدول بتقوية أنظمة الإنترنت الخاصة بها وجعلها أكثر صلابة، في حين يبقى مفهوم حيادية الشبكة مبهمًا. في حال تحول الإنترنت إلى شبكة من الشبكات المغلقة، قد لا تتحقق الإمكانات الكاملة التي تعِد بها البيانات الضخمة.
يجب على الحكومات تحسين قدراتها في مجال إشراك المواطنين وحثهم على المساهمة بدور فاعل مع مزودي البيانات ومستخدميها. وهذا الأمر يتطلب من الحكومات ترسيخ ثقافة البيانات المفتوحة، وهو أمر بدأت الحكومات بتطبيقه محققة مستويات مختلفة من النجاح. لا يمكن أن نقول بأن مستوى مشاركة المواطنين يقع ضمن المهام النموذجية للحكومة، وإنما مهمتها توفير منصة أفقية مفتوحة وسريعة الوتيرة بين الحكومة والمواطن.
أما الحاجة الأخيرة ولعلّها الأهم فتتمثل في استقطاب الكفاءات المطلوبة لعصر البيانات واستبقائها. فقد كان العثور على وظيفة أمرًا شاقًا بالنسبة لخبير إحصاء منذ عقدين من الزمن وفي مختلف دول العالم. أما اليوم، فقد أصبحت هذه المهنة التي تغيّر اسمها إلى "عالم بيانات" المهنة الأكثر طلبًا في السوق، حيث تتنافس شركات تكنولوجيا المعلومات (سواء الناشئة منها أو الضخمة ذات المكانة الريادية في السوق) وشركات الخدمات المالية والتجزئة وشركات الدفاع والحكومات لتوظيف هذه الكفاءات. ولتحقيق النجاح والازدهار في عصر الثورة الصناعية الرابعة، تحتاج المؤسسات والجهات الرسمية إلى استقطاب هذه الكفاءات واستبقائها ومساعدتها على تطوير مهاراتها وقدراتها باستمرار.
المصدر: كتب هذا المقال د. يسار جرار بتاريخ 13 فبراير 2017، المقال الأصلي منشور على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي