سرعان ما أصبحت الحاجة إلى البيانات موضوعًا أساسيًا يرتبط بكافة الجوانب المتعلقة بمجتمعنا الرقمي الآخذ بالتطور. ويظهر ذلك جليًا في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يَعِد بإحداث تغييرات جذرية في المجتمع والحكومات سوياً. إذ تستعين شركات مثل غوغل وفيسبوك ومايكروسوفت بتقنيات الذكاء الاصطناعي لتدريب الحواسيب على التعرف على المواد في الصور وفهم لغة الإنسان، وهو أمر ممكن الحدوث بفضل الكم الهائل من البيانات المتوفرة لدينا. وينطبق الأمر نفسه على جميع أشكال التعلم الآلي والتصنيع الذكي والتوجهات القائمة على التكنولوجيا التي من شأنها أن ترسم ملامح المستقبل القادم. إلا أن جميع هذه التوجهات تعتمد على البيانات وجودتها مرهونة بالبيانات التي تعالجها، وهكذا تصبح البيانات مصدرًا للثروة والقيمة العامة. في هذا السياق، يمكننا القول أن قيمة البيانات تتعدى كونها "النفط الجديد"، بل هي شريان الحياة للمجتمع الرقمي. فالشركة التي تعمل دون بيانات دقيقة أشبه بمن يسير دون بوصلة، وهذا ينطبق بالأخص على القطاع الحكومي (لا سيما في ظل النقص المتزايد للتمويل الحكومي).
تسيطر اليوم الشركات الخاصة على حجم كبير من البيانات في العالم (كقطاعات تكنولوجيا المعلومات وشركات الاتصالات وشركات التجزئة). فقد تمكنت بعضها، مثل غوغل وفيسبوك، من كسب الأموال من هذه البيانات وبناء نموذجها التشغيلي عليها. بينما استخدمت شركات أخرى مثل أوبر وإير بي إن بي AirBnB البيانات لتطوير منصات أحدثت تحولاً في القطاعات التي تعمل بها. وحتى هذه اللحظة، يقدم الأشخاص بياناتهم دون أي مقابل للحصول على خدمات تقنية (مثل البريد الإلكتروني)، إلا أن هذا الحال لن يدوم لوقت طويل. فهناك نماذج تشغيلية قيد التطوير حاليًا تهدف لإيجاد سبل للبدء بالدفع للأفراد مقابل البيانات التي يقدمونها خلال حياتهم اليومية، ما يجعلنا شاهدين على بروز قطاع واعد وزاخر بالفرص ولكنه يفتقر إلى التشريعات المناسبة.
وهنا تتبادر إلى الذهن تساؤلات ما زالت دون إجابة في عصر البيانات؛ ما الجهة التي تمتلك البيانات؟ وما الجهة التي يجب أن تمتلكها (نظرًا لكونها عنصرًا أساسيًا في مستقبل مجتمعنا الرقمي)؟ هل يجب علينا إيجاد ميثاق أساسي للبيانات ليتمكن الأفراد من فهم حقوقهم ومسؤولياتهم؟ من المسؤول عن جودة وأمن بياناتنا؟ كيف نتحكم ونضمن الخصوصية؟ وأخيرًا، هل سيستمر الأفراد بتقديم البيانات دون الحصول على مقابل مادي؟
ما تزال معظم هذه البيانات تحت الملكية الخاصة للشركات والحكومات وغيرها من الجهات، مما يحد من قيمتها العامة. نظرًا للآثار المترتبة على القواعد التي تحكم البيانات، تلعب الحكومات دورًا هامًا في التأسيس لسوق البيانات ووضع القيود الضابطة له. فقد أصبحت البيانات سلعة اجتماعية جديدة وعلى الحكومات أن تدرس فرض قوانين خاصة بمسؤولية البيانات تحتم على القطاع الخاص والجهات الأخرى المالكة للبيانات الالتزام بواجبات جمع البيانات وإدارتها ومشاركتها في الوقت المطلوب ناهيك عن حمايتها. ويجب أن تشمل هذه القوانين أنظمة إدارة البيانات المفتوحة والضخمة التابعة للحكومات وجميع المعنيين(بغض النظر عن طبيعة مسؤوليتها أو غير ذلك من القواعد الضابطة). وفي هذا الصدد، فرض الاتحاد الأوروبي اللائحة العامة لحماية البيانات عام 2019 التي من شأنها أن تغير الأسلوب المتبع في إدارة البيانات بمختلف القطاعات وتعيد تعريف الأدوار التي يقوم بها مدراء الشركات. بينما تتمثل أهداف اللائحة في توحيد قوانين البيانات في مختلف الدول الأوروبية وحماية وتمكين خصوصية البيانات لجميع مواطني الاتحاد الأوروبي وإعادة تعريف الأسلوب المتبع في حماية خصوصية البيانات في المنطقة.
تقع على عاتق الحكومات مهمة مراجعة أعداد كبيرة من القوانين، وهي محفوفة بالتحديات بلا شك. وفي ظل تراجع ثقة أفراد المجتمع بالحكومات، تقف تحديات أخرى أمام تطبيق مبادئ الحوكمة على الفضاء السيبراني. على الحكومات أن تكتسب فهمًا كاملاً لجميع أجزاء سلسلة قيمة البيانات لإعداد القوانين الملائمة، وذلك ابتداءً من توحيد وفرض القوانين المتعلقة بالخصوصية والحماية من خرق البيانات وانتهاءً بالقوانين التي تضمن حيادية الشبكة وتدفق البيانات. واليوم، تقوم النقاشات حول مستقبل البيانات الضخمة على افتراض أن الإنترنت ستبقى سلسلة من الشبكات المفتوحة تتدفق فيها البيانات بسهولة، في حين بدأت بعض الدول بتقييد أنظمة الإنترنت فيها مما يضع مفهوم حيادية الشبكة على المحك. وهذا يلقي بظلاله على الإمكانيات الكامنة في البيانات الضخمة التي لن تتحقق على أكمل وجه إذا تحولت شبكة الإنترنت لسلسلة من الشبكات المغلقة.
على الحكومات أيضًا أن تطور من قدرتها المتعلقة بإشراك أفراد المجتمع بفاعلية سواء أكانوا مزودي الخدمات ومستخدميها. ولا يتم ذلك إلا من خلال إيجاد ثقافة البيانات المفتوحة وهي نقطة باشرت الحكومات تنفيذها بدرجات متفاوتة من النجاح. وليس المقصود بإشراك أفراد المجتمع المستوى التقليدي المتعارف عليه للتواصل مع الحكومة، بل هو أشبه بمنصة مفتوحة تشاركية وسريعة الاستجابة بين الحكومة والمتعامل.
كما يثبت لنا مثال الاتحاد الأوروبي، تتخذ الدول المزيد من الخطوات لحماية البيانات والقوانين والتشريعات. وما إن تدخل هذه القوانين حيز التنفيذ، ستواجه الجهات الحكومية التي لم تستعد لمواكبة التغيرات في قوانين ومبادئ حوكمة البيانات آثارًا سلبية للغاية. بالتالي من المهم على الجهات الحكومية أن تبدأ بإعداد استراتيجية للبيانات واكتساب القدرة على البحث واكتشاف ومراجعة البيانات الموجودة حاليًا لديها، فيما يعد مهارات أساسية تمكنها من الامتثال لقوانين الخصوصية الجديدة ونقطة تنطلق منها مبادرات التحديث والتحول الرقمي في قطاع تكنولوجيا المعلومات.
مصادر بعض المعلومات الواردة في الفقرة الأخيرة: