بالرغم من توفّر الموارد وأدوات الابتكار للمؤسسات الحكومية في نيوزيلندا، لا يزال الابتكار الحكومي بحاجة إلى بيئة داعمة تعزّز إمكانية الموظفين الحكوميين من وضع هذه الأدوات موضع التنفيذ. لذلك بادر الفريق القيادي للحكومة الرقمية (DGLG) إلى إطلاق “مقياس الابتكار” (Innovation Barometer) في عام 2020 كأداة فعّالة لتسلّيط الضوء على مناحي القصور في المؤسسات الحكومية فيما يتعلق بالابتكار، وتوفير البيانات اللازمة لتمكين صنّاع القرار من معالجتها.
تجد العديد من المؤسسات الحكومية حول العالم صعوبةً في وضع حلول مبتكرة تساهم في معالجة التحديات التي تتعرض لها أو في رفع مستوى الأداء الحكومي. وترى نيوزيلندا أن التحدي الأهم في ذلك يكمن في الفجوة بين إلمام صناع القرار بمفهوم ودور الابتكار نظرياً ومقدرتهم على تنفيذه عملياً على أرض الواقع. حيث أن مدراء الدوائر الحكومية وقادة المؤسسات في نيوزيلندا يتمتعون بفهم واضح عن أهمية الابتكار، ولكن بنفس الوقت يفتقرون إلى البيئة المدعّمة بالأدلة والبيانات التي من شأنها أن توضح قيمة الابتكار في مؤسساتهم والتبعات السلبية التي قد يعاني منها القطاع الحكومي عند تجاهل الحاجة إلى الابتكار.
وعلى هذا الإثر، توجهت الحكومة النيوزيلندية مؤخراً، مستعينةً بتجربة الدول الاسكندنافية الرائدة في هذا الميدان نحو إنشاء مقياس للابتكار الحكومي يوفّر البيانات والمعلومات التي تكشف عن مناحي القصور لدى الدوائر الحكومية، فضلاً عن وضع البيانات والدروس المستفادة من ابتكارات المؤسسات الحكومية لمساعدة هذه الدوائر على تخطي التحديات التي تعيق الابتكار الحكومي من خلال تقديم مجموعة من الحلول الفعّالة والمجرّبة.
ويترأس الفريق القيادي للحكومة الرقمية (DGLG) هذه المبادرة، وهو يمثل الجهة المشرفة على تحقيق التحول الرقمي في المؤسسات الحكومة النيوزيلندية، ويضم رؤساء أهم الدوائر والوكالات الحكومية. حيث قام بالتعاون مع شركة “كرييتيف إتش كيو” (Creative HQ) المتخصصة في تصميم البرامج القائمة على الابتكار، لتطوير “مقياس الابتكار” الحكومي النيوزيلندي، بميزانية قدرها 245 ألف دولار أمريكي وبمشاركة 19 دائرة من الحكومة المركزية (الفدرالية) في العاصمة ويلينغتون مبدئياً، على أن يتم ضم جميع الحكومات المحلية إلى المشروع مستقبلاً.
وقد تمثّلت المرحلة الأولى من المشروع في عملية جمع البيانات المطلوبة لقياس الابتكار في الدوائر الحكومية المشاركة، والتي تمت بالاستعانة بأكاديميين متخصصين من كلية فكتوريا لإدارة الأعمال والإدارة الحكومية. وتم على أساسه إعداد استبيان يبيّن بالتفصيل كافة نقاط القوة والضعف لدى الدوائر الحكومية المعنية والإجراءات التي تتبعها لمعالجة نقاط الضعف، والظروف والعوامل التي تمكّن الابتكار فيها. وللإحاطة بجوانب القصور، استكمل فريق العمل البيانات الكمية الناتجة عن الاستبيان ببيانات نوعية جرى جمعها من خلال إجراء أكثر من 60 مقابلة مع موظفين من مختلف المستويات في الدوائر المشاركة بهدف تكوين صورة متكاملة عن بيئة العمل داخل المؤسسات الحكومية.
ومن أبرز ما يميز “مقياس الابتكار” الحكومي النيوزيلندي هي الجهود التي وضعها فريق العمل في معالجة البيانات النوعية والكمية واستخلاص المعلومات والدروس التي تم جمعها في منصة واحدة تحت مسمى “بنك الابتكار” (Innovation Stock)، وهي منصة سهلة الاستخدام ومتاحة للدوائر المشاركة كي تساعد على تحديد نقاط الضعف والقصور، وعرض ملخص عن المشاريع المبتكرة القائمة في الدائرة، والعوامل المؤثرة سلباً أو إيجاباً على الابتكار، بالإضافة إلى سبل معالجة نقاط الضعف بشكل عملي وفعّال.
وقام فريق العمل كخطوة أولى بتحديد خمسة عوامل داعمة للابتكار يتم على أساسها تقييم مستوى الابتكار في كل دائرة، ومن ثم تصنيف البيانات والمعلومات التي تم جمعها ضمن “بنك الابتكار” وفق هذه العوامل، وهي: (أ) رغبة موظفي الدولة بالابتكار كوسيلة لإيجاد الحلول أو تطوير الخدمات، (ب) معرفتهم بالابتكار وامتلاكهم المهارات والقدرات اللازمة، (جـ) مستوى التعاون داخل الدائرة ومع الأطراف الخارجية، (د) مستوى ثقافة الابتكار لدى رؤساء الدوائر وتقبلهم للمجازفة (هـ) البيئة المؤسسية، بما في ذلك مرونة السياسات التنظيمية وتحديد الموارد والتوجهات الداخلية للمؤسسة المساهمة في تشجيع الابتكار أو الحد منه.
حيث يمكن لأي دائرة من الدوائر الحكومية المشاركة في المشروع استعراض مختلف البيانات المدمجة في “مقياس الابتكار” من خلال لوحة متابعة إلكترونية تفاعلية لتسليط الضوء على أدائها في مجال الابتكار وجوانب القصور لديها. ومن المقرر في المرحلة القادمة من المشروع أن يتمكن المواطنون من استعراض بيانات “مقياس الابتكار” الحكومي عبر منصة إلكترونية متاحة للعامة بما يزيد شفافية الأداء الحكومي ويعزز حس المسؤولية لدى الدوائر الحكومية.
ويمثل مشروع “مقياس الابتكار” الحكومي النيوزيلندي حلاً مبتكراً لتشجيع المؤسسات الحكومية على الابتكار، حيث غالباً ما تتعرض تلك المؤسسات إلى تحديات عديدة تحد من مقدرتها على ذلك. فبالرغم أن هناك العديد من الأدوات والموارد المتاحة لموظفي الدولة لمساعدتهم على الابتكار، يصعب عليهم نقل أفكارهم إلى تطبيقات عملية، سواء بسبب عدم رغبة القطاع الحكومي عموماً بالمجازفة والتغيير أو بسبب افتقار القيادات المؤسسية إلى البيانات التي توضح جوانب القصور والقيمة التي يحققها الابتكار الحكومي على أرض الواقع، حيث يمكن للأخيرة المساهمة في تشجيع قيادات المؤسسات الحكومية على المجازفة.
وما يزال “مقياس الابتكار” الحكومي النيوزيلندي قيد الاختبار والتقييم ومن المخطط أن يتم التوسع فيه سنوياً من خلال جمع البيانات الكمية بشكل دوري لإلقاء الضوء على أوجه التحسن في المؤسسات الحكومية. وسيقوم فريق العمل على التوسع بضم المزيد من الدوائر والمؤسسات الحكومية مستقبلاً. كما ترغب نيوزيلندا في التعاون دولياً مع جهات حكومية خارجية لتشجيع الدول على الاستفادة من الدروس التي تعلمتها وتطبيق “مقياس الابتكار” الذي طورته في حكوماتها لتعميم الفائدة.
المراجع: