لتحقيق الحياد المناخي بحلول العام 2030، تعمل مدينة مالمو السويدية على تغيير شكل قطاع البناء لديها ليقوم على حلول الطاقة الذكية والمواد الصديقة للبيئة، لتكون أول مدينة سويدية تضع خارطة طريق للبناء المستدام.
يمثِّل قطاع البناء بأنشطته المختلفة واحداً من أكبر مسبِّبات انبعاثات الغازات الدفيئة التي تسبّب الاحتباس الحراري وتغيُّر المناخ، لكن في الوقت نفسِه، لا يمكن لحكومةٍ في العالم الاستغناء عن مشاريع الإسكان وإعمار المدارس والبنى التحتية والشوارع والجسور والسدود.
في مدينة مالمو الواقعة على ساحل السويد الجنوبيّ، ينفرد هذا القطاع بـ 20% من البصمة الكربونية للمدينة،
ما يمثِّل عائقاً كبيراً أمامَ مخططاتها للعقد والنصف المقبلَين، حيث تعتزم السلطات المحلية بناء أكثر من 28 ألف منزلٍ جديد وتوسيعَ خدماتها البلدية وبناها التحتية، إلى جانب إجراء أعمال الصيانة والترميم الروتينية للأبنية القائمة.
لهذا، لم تكتفِ سلطات مالمو بخارطة الطريق الوطنية نحو “سويدٍ خاليةٍ من الوقود الأحفوريّ”، إذ قررت وضع خريطتها الخاصة التي تتلاءم مع السياق المحلي بكلّ تفاصيله، لترسمَ مسيرة قطاع البناء والتخطيط الحَضَريّ صوب الحياد المناخي.
بدايةً، أجرت السلطات دراسة جدوى بحثاً عن طرائق العمل الأجدى والاستراتيجيات الأكثر فاعلية، وتوصّلت إلى مجموعةٍ من الأفكار المبدئية والأهداف الطموحة، وفي مقدِّمتها خفض عوامل التأثير المناخية إلى النصف بحلول العام 2025، بالتزامن مع إطلاق كلٍّ من المطوِّرين لمشروعٍ واحدٍ على الأقلّ يلبي شروط الحياد المناخيّ.
وبناءً على هذا، فقد قامت خارطة الطريق على 6 محاور رئيسية مترابطة، وهي نماذج الأعمال والحوافز والتعاون، ثم الاقتصاد الدائريّ وكفاءة الموارد، فالتصميم والعمليات والحسابات المناخية، تليها مواد البناء المحايدة مناخياً، وتأتي بعدها الصيانة وإدارة العمليات، وأخيراً وليس آخراً، مواقع البناء وآليات النقل المحايدة مناخياً.
بناءً على هذا ينبغي على الجهات العاملة في مجال البناء، التوجّه إلى الموارد المتجددة والدائرية والمُعاد تدويرُها، والتركيزُ على الحدّ من النفايات عن طريق إعادة تدوير المواد واتخاذ القرارات المستنيرة القائمة على تقديرات التأثير المناخي للمبنى، والتي تُجرى في مرحلة التصميم.
فتحت حكومة مالمو البابَ للمعنيين وأصحاب المصلحة ليكونوا جزءاً من هذه الرؤية المستقبلية، بحيث جعلت الانضمام إلى خارطة الطريق طوعياً لا إلزامياً. ولمشاركة المعارف والخبرات، أنشأت ما يشبه اتحاداً اقتصادياً لجمع الشركاء الذين بلغَ عددُهم 190 عضواً من مالكي العقارات والمقاولين والاستشاريين والمعماريين والمورِّدين والمصارف، وقد تعهّدوا جميعاً بإدماج الأهداف العريضة للاستراتيجية في أعمالهم وأنشطتهم ومراقبة ما ينتجونه من انبعاثات والإفصاح عنها ضمن تقارير سنوية.
ومن الجدير بالذكر أنّ مالمو قد انضمّت مؤخراً إلى لائحة المدن الأوروبية المصنّفة كمراكز مرونة من قِبل مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث، ومن ثمّ احتلت المرتبة الأولى في الشبكة الأوروبية لرأس المال الأخضر، التي أسّستها المفوضية لتجمعَ أكثر مدن القارة ابتكاراً في مواجهة تغيّر المناخ. وقد حقّقت سلطات المدينة هذه الإنجازات المتتاليةَ بسرعةٍ قياسية، فقبل حوالي ربع قرن، عانى اقتصادُها صعوباتٍ كثيرةً كتلوث الساحل وتدنّي جودة التربة وتدهور النظم البيئية المائية، بالإضافة إلى أزمة النفط في السبعينات والانهيار الماليّ في التسعينات وما سبّباه من انهيارٍ لقيمة العملة المحلية وارتفاعٍ في مستويات البطالة، وصل إلى 12.4%.
وقبل مطلع الألفية، بدأت سلطات مالمو مشروعاً طموحاً استهدف منطقة صناعية مهجورة ليعيدَ تأهيلَها ويبني فيها جامعة مالمو التي تضمّ اليومَ أكثر من 24 ألف طالب، وفي العام 2000، أطلقت مشروعاً آخر يربط المدينة بالعاصمة الدانماركية كوبنهاغن، عبر جسر “أوريزُند” للسكك الحديدية، الذي مثّل رافداً اقتصادياً للمدينة وخياراً جديداً للتنقُّل للشركات ومورِّدي البضائع والمسافرين.
بعد إغلاق الميناء الصناعيّ السابق، أعلنت السلطات عن مسابقةٍ لتحويلِه إلى منطقةٍ سكنيةٍ باسم “مدينة الغد”، وهي المدينة الأولى المعتمِدة بالكامل على مصادر الطاقة المتجددة.
تزامن هذا مع تأسيس مخزن إعادة البناء الذي يجمع المواد الفائضة أو المستعملة في مختلف مشاريع البناء الحكومية والخاصة وردمَ الأبنية المهدَّمة، لتتمَ معالجتُها ومن ثمّ بيعُها للراغبين بمواد منخفضة التكلفة أو بالمساهمة في الاقتصاد الدائريّ، ومعظمُهم من شركات البناء الصغيرةِ إلى جانب نسبة 30% من السكان المحليين.
لكن عند الحديث عن المشاريع الكبرى، يكون استخدامُ المواد المُعاد تدويرُها أمراً معقّداً يتطلّب الكثير من الوقت والتكلفة، لا سيما بحساب رسوم إيداع المواد في المخزن وإدارتِها ونقلها. وفي حين يعتمد جزء كبير من هذه العملية على نفايات مشاريع الهدم، تبقى الحوافزُ محدودةً والإطارُ الزمنيُّ ضيقاً، خاصةً وأنّ هذه المشاريع تستهدف منشآتٍ قديمةً نسبياً، وما من سجلاتٍ موثوقةٍ لهياكلِها ولحجم الضرر والتهتُّكِ اللذين لحقا بها نتيجة العوامل الخارجية التي تؤثر على متانة المواد وقوَّتِها وديمومتها، أضف إلى ذلك أنّ بعض هذه المواد كالخرسانة الزرقاء تُصنّف اليوم كمواد خطيرةٍ أو غير قانونيةٍ أو لا تصلح للبناء.
رغم هذا، يقوم مخزن إعادة البناء بتدوير 10 آلاف طنٍّ من المواد سنوياً فيقدّم نموذجاً للدور الذي تستطيع البلدياتُ لعبَه في تحقيق الاستدامة، وكذلك يفعل مشروع مدينة الغد الذي يفتح الباب لمشاريع مشابهةٍ تلتزم بالنهج الدائريّ.
عموماً، بيّنت هذه التجربة السويدية الناشئة أنّ بناء الوعي هو الخطوة الأهم للوصول إلى قطاع بناءٍ محايدٍ مناخياً، وهو الهدف الذي تنوي السلطات تحقيقَه بحلول العام 2030، لبدء المرحلة التالية التي ستستمر إلى العام 2035، وهي تحقيق الإيجابية المناخية.
المراجع:
- https://lfm30.se/wp-content/uploads/2021/01/Local-Roadmap-LFM30-English.pdf
- https://talkofthecities.iclei.org/lfm30-a-climate-neutral-construction-sector-in-malmo-by-2030/
- https://www.themayor.eu/en/a/view/malm-is-the-first-swedish-city-with-a-roadmap-to-sustainable-construction-10431
- https://unric.org/en/malmo-named-a-un-resilience-hub/#:~:text=Malm%C3%B6%20has%20become%20the%20latest,and%20mitigate%20climate%2Drelated%20hazards.
- https://www.cepsa.com/en/planet-energy/2030-vision/malmo-swedish-miracle-transformed-industrial-city-into-sustainable