تعزيز التغيير في الخدمات الحكومية وإعادتها لأهدافها الأصلية
تتمحور الإدارة الحكومية حول فكرة إنجاز المهام المطلوبة، ولكن ما يحدث حول العالم اليوم هو أننا لم نعد ننجز هذه المهام. حتى أن العمليات السياسية والإدارة الحكومية لم تعد تُلبي تطلعات المجتمع وتوقعاته. كما أصبحنا ننظر إلى إدارة الخدمات الحكومية على أنها جزء من المؤسسات المجتمعية التي خذلت جمهورها ولم ترقَ إلى مستوى تطلعاتهم.
تواجه العديد من الدول من فجوة آخذة في الاتساع بين أهداف السياسات المصرح بها والخدمات الفعلية المقدمة للأفراد على أرض الواقع ويطلق على هذه الفجوة اسم "فجوة الإنجاز". فقد خرجت فكرة إنجاز وتقديم الخدمات الحكومية في عهد ظهور مفهوم فيبر للبيروقراطية ومنهج فريدريك تايلور للإدارة العلمية والهياكل التنظيمية التنازلية. حتى أن نموذج توزيع الخدمات اقتُبس من القطاع الصناعي الذي تقدم فيه المصانع الحكومية خدمات متطابقة لجميع الأفراد.
ترافق المفهوم الجديد للإدارة الحكومية مع إتاحة مجال أكبر للتعلم من القطاع الخاص ليثمر الأمر عن تعزيز الكفاءة بفضل استخدام أدوات شائعة في عالم إدارة الشركات. إلا أن التركيز كان منصبًا على تعزيز الكفاءة بدلًا من رفع القيمة المقدمة للأفراد أو إيجاد الحلول للتحديات التي غالبًا ما تكون شائكة بطبيعتها.
هناك شعور بعدم الرضا عن إجراءات تقديم الخدمات الحكومية ينبع من أسباب عدة. فلم يعد الأفراد على استعداد لقبول خدمات لا تُلبي احتياجاتهم، وذلك لأنهم قد اكتسبوا معارف ومهارات أكبر بفضل انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. فاليوم، يُطالب الأفراد الأكثر اطّلاعًا بخدمات مصممة خصيصًا لتلبية احتياجاتهم والقدرة على إحداث تأثير.
من جهة أخرى، أدى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى فرض ضغوطات على تمويل الخدمات الحكومية. وفي العديد من الدول المتقدمة، يؤدي ارتفاع نسبة الشيخوخة بين السكان إلى زيادة التكاليف الحكومية المرتبطة بهذه الفئة العمرية. بينما توصل بحث حديث إلى أن قدرة الفرد على تولّي زمام شؤونه الحياتية تلعب دورًا هامًا في تحقيق رفاهيته.
علينا إيجاد سبل جديدة لرفع مستوى القيمة التي تقدمها الحكومة للمجتمع. وإذا كنا نبحث عن حل مستدام، فإن زيادة التمويل الحكومي ليست الحل المنشود. لا ننكر أهمية الأدوات التقليدية التي تستعين بها الحكومات لإنجاز المهام والتي تتضمن التشريعات وإعداد الميزانيات والتنظيم، ولكن هذه الأدوات غير كافية إذ يجب تعزيز قدرات الحكومة وزيادة أدواتها لتتمكن من التعامل مع الظروف غير المتوقعة.
لا بد أن ننظر إلى اكتساب ثقة الأفراد كمورد يتجدد ولكن ببطء. وبينما تعتمد الأدوات الحكومية التقليدية على استخدام الصلاحيات، فإنها غالبًا ما تؤثر على هذه الثقة سلبًا. وقد تلاشت ثقة الأفراد في أغلب الدول التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بوتيرة سبقت عملية تجددها بأشواط، الأمر الذي انعكس على عملية اتخاذ القرارات. والمحصلة هي حلقة مفرغة يتحدى فيها غياب الثقة في الحكومات عملية صنع القرار والذي بدوره يؤدي إلى تلاشي الثقة أكثر وأكثر. وللخروج من هذه الحلقة، يجب عكس اتجاهها.
على الحكومات أن تتقن أساليب جديدة لتقديم القيمة والنظر إليها من منظور مختلف. فقد اعتمدت الخدمات الحكومية على مفهوم الفصل بين الفكرة والفعل والتفكير والتنفيذ بشكل كبير، إذ يرتكز دور السياسين والقادة على التفكير والتخطيط فيما تقوم الجهات المعنية بتنفيذ الأفكار وتقديم خدمات موحدة وقابلة للتكرار للأفراد.
يمكننا إحداث تحول جذري إذا ما تعلمنا كيف نتعاون مع الأفراد لتحقيق النتائج بدلًا من الاكتفاء بتوفير الخدمات لهم. ويتطلب ذلك تغييرًا في نظرتنا لهم وتحويل هويتهم من أفراد مستهلكين إلى مواطنين يساهمون في إضافة نتائج قيمة. وهكذا نجمع بين الفكرة والتنفيذ مرة أخرى. علينا أن نحقق التغييرات المطلوبة في المجتمع مستعينين بالحد الأدنى من الصلاحيات ومحققين الحد الأقصى من النتائج ذات القيمة. ولا يمكن فعل ذلك إلا بمنح الأفراد فرصة للمشاركة في عملية صنع القيمة العامة، ويمكن لآليات التوجيه التصاعدية وإجراء التجارب وتصميم الخدمات المتمحورة حول المستخدم أن تُسرّع الوتيرة التي تتجدد بها ثقة الأفراد في الحكومات.
ومن جهتها، تسهم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تسهيل مهمة الاتصال والتواصل وتطوير الخدمات ضمن شبكة موحدة. كما يقلل التحول الرقمي من تكاليف التعاملات بشكل كبير وتتيح الشفافية الرقمية المجال أمام تنسيق جهود الاستجابة.
كما يقدم اقتصاد المنصات (الذي يوصف أيضًا من وجهات نظر مختلفة بالاقتصاد التشاركي أو اقتصاد العمل الحر أو الاقتصاد المبدع) إمكانات هائلة للقطاع الحكومي لأنه يتيح المواءمة بين الحاجات والخدمات المعروضة بسهولة وبدون تدخل المؤسسات الضخمة. وبذلك فإنه يمكّن الحكومات من ابتكار المنصات التي تمهد الطريق أمام تعزيز القيمة العامة.
لا يتحقق تعزيز القيمة العامة في الجهات الحكومية بل عبر الشبكات التي تضم السياسيين والموظفين الحكوميين والأفراد والعلماء والشركات الخاصة والجهات غير الربحية ووسائل الإعلام. ومن الأمثلة على المنصات التي نتحدث عنها النموذج الفنلندي في التعامل مع التنقل كخدمة. يجب تطوير مثل هذه المنصات بالاعتماد على نهج النظام المتكامل، بحيث تقوم على دعم تطوير القدرات والحوار المفتوح ومشاركة جميع الجهات المعنية. أما قيادة المنصة، فتركز على رؤيتها الاستراتيجية وبناء الثقة وتوفير بيئة تعلم تتضمن قنوات لطرح الآراء والاقتراحات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التركيز الرئيسي لا ينصب فقط على ما ننجح بإنجازه وإنما على كيفية الإنجاز. وتعد التجارب والاختبارات التي تجرى ضمن منظومة معينة من أهم عناصر المنصات التي تتشابك فيها القطاعات الحكومية والخاصة. ويمكننا القول إن هذه المنصات تمثل "مقرات الهيئات الحكومية" المستقبلية.
يصبح السياق من أهم العناصر عند الحديث عن تحقيق القيمة العامة عبر الشبكات والتفاعل الإنساني. فاحتياجات الأفراد متباينة، ولا بد من التأقلم مع التوقعات والتعامل مع تحدياتها المختلفة. وأفضل سبيل إلى ذلك تعزيز قدرة القطاع الحكومي على الابتكار وتصميم الخدمات بمشاركة المجتمع. وهذا يتطلب التوصل إلى لغة مشتركة بين القطاعات والأفراد وتصميم الخدمات بالاعتماد على وجهة نظر الأفراد بالرغم عن عمل الجهات الإدارية المنعزلة عن بعضها. كما يجب ابتكار الأدوات الكفيلة بتشجيع تصميم الخدمات المتمحورة حول الأفراد واحتياجاتهم. وهنا يأتي دور البيانات المفتوحة التي تجمع قدرات الافراد بهدف التحكم بكيفية استخدام البيانات ومشاركتها (منهجية Mydata) وإضافة قيمة في الخدمات الحكومية والغايات التجارية.
نحن نشهد ذلك على أرض الواقع ولدينا التقنيات اللازمة. ولكن التحدي يكمن في الجانب السلوكي والأساليب المتبعة في تنظيم المهام وإنجازها، فنحن ما زلنا نواصل العمل في مواقع غير مناسبة وبالاعتماد على آليات لم تعد سارية المفعول وهذا ما يجب تغييره. ولا يحدث التغيير بمجرد التفكير وتحكيم العقل، وإنما بالاعتماد على التعلم والتجربة ومساعدة الآخرين على ملاحظة ما حولهم والتعلم والتفكير والمشاركة في رحلة التغيير. يجب أن نتعلم كيف نُحدث أثرًا جماعيًا بالاعتماد على الأنشطة القابلة للتكيف مع الظروف. وهكذا نعزز التغيير في الخدمات الحكومية ونعيدها إلى جوهرها الأصلي.
المصدر: كتب هذا المقال أولي بيكا هينونين، مدير عام مجلس التعليم الوطني الفنلندي، فنلندا